تمر هذه الأيام بالعالم العربي وبفضائه الشعري والإبداعي الذكرى السادسة والخمسين لرحيل شاعر التجديد ورمز قصيدة التفعيلة العراقي بدر شاكر السياب، الذي أحدث أبرز انعطافة في تاريخ الشعر العربي باعتماده التجديد وتبني فكرة الشعر الحر، ما أسهم في التحول الشكلي والرمزي في الشعر العربي الحديث، بالانتقال من البناء العمودي الكلاسيكي إلى الشعر الحر وشرعنة قصيدة التفعيلة.
وحالت الأحداث السياسية والصحية التي يعيشها العالم دون إحياء ذكرى تليق بمقام «شاعر النبوءات»، إلا أن قصيدته «أنشودة المطر» التي غناها محمد عبده عادت إلى الواجهة، شأن قصيدة «غريب على الخليج» التي ردد آلاف من عشاق شعره (أصيح بالخليج يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى) تزامناً مع ذكرى الرحيل، وانتصاراً (لأبوغيلان) بأثر رجعي إثر مجابهة النقاد تجاربه التحديثية، ورفض التقليديين مغامرته وتحفظهم على تغيير البنية الإيقاعية الراسخة.
فيما يراه الشاعر دخيل الخليفة نموذجاً فريداً في التجديد المنطلق عن وعي ودراية وخبرة طويلة بالشعر الإنساني وتجاربه عبر قرون، وقال (لولا هذا العراقي (الخصيبي) النحيل.. لتجمد نهر القصيدة العربية وأصبح مجرد ممشى بارد بلا روح.
ولد «السياب» في قرية جيكور بمحافظة البصرة جنوب العراق، في 25 ديسمبر 1926، وخلدها في شعره، وتحولت بفضله من قرية صغيرة تابعة لقضاء أبي الخصيب إلى قبلة يقصدها عشاقه، وعانى من يُتم مبكر بعد موت والدته وهو في سن السادسة وظلت نصوصه الأولى أسيرة تصوراته الرومانسية، والشعور بالاغتراب في العالم الذي اعتبره عالماً موحشاً، وأنهى دراسته الثانوية وانتقل إلى بغداد، والتحق بدار المعلمين العالية، وتخصص في اللغة العربيّة، وقضى سنتين في تعلم الأدب العربي، ما ساعده على تعميق معرفته بالتراث العربي، أتبعها بدراسة اللغة الإنجليزية، طمعاً في التعرف على ثقافات أخرى، ومواكبة حركة الأدب العالمي، وأسهم بترجمات لشعر الإسباني فدريكو جارسيا لوركا، والأمريكي إزرا باوند، والهندي طاغور، والإيطالي أرتورو جيوفاني.
اتسمت شعرية السياب بالالتزام وظل شاعراً وفياً للقضايا الوطنية، بحكم واقع الاحتلال في العراق، وناضل في سبيل تحرير بلاده، وبسبب نشاطه النضالي فُصل من وظيفته كمعلم في الرمادي وأودع السجن، وتنامت شعريته بتوسع دائرة الاهتمام بقضايا نضالية أوسع في ظل استشعاره فداحة التناقضات الاجتماعية، ثم انتهى شاعراً عروبياً ملتزماً بقضايا القومية. وعزا الناقد الفلسطيني الراحل إحسان عباس، انتماء «السياب» إلى اليسار، إلى رغبة التعبير عن تعويض ما عاشه من فقد وحرمان، فأراد الانتقام لحرمانه من الناس والزمان، فاستهوته الاشتراكية لا عن عقيدة فلسفية بل عن نقمة اجتماعية، وتعرض صاحب (شناشيل ابنة الجلبي) لخيبات عاطفية وثقافية متوالية أسهمت في تبنيه مواقف حادة تجاه المرأة وعلت نبرة التشاؤم في شعره.
ورثاه رفيق دربه الشاعر سعدي يوسف بقصيدة (انطفاء فانوس جيكور) منها:
جيكورُ توقد في المساء الرطبِ فانوساً ولا تلقى ضياءَهْ
– مات اليتيمُ وخلّفَ امرأةً وأيتاماً وراءَهْ
يا رحمة الله التي وسِعَتْ شقاءَهْ
يا أُمَّ مَن لا أُمَّ تُغْمِضُ جفنَهُ: كوني رداءَهْ
ولْتمنحي الجسدَ المعذّبَ راحةً، والحلقَ قطرةْ
ولْتمسحي بالسِّدْرِ جبهتَهُ، وبالأعشابِ صدرَهْ
هو طفلُكِ المصلوبُ فوقَ سريرِهِ عاماً فعاما
متقيِّحَ الطعناتِ
مشلولاً
مُضاما ...
يا رحمةَ الله التي وسِعَتْ شقاءهْ
قودي خُطاه إلى السماءِ، فطالَ ما حجبوا سماءَهْ
وتَرَفّقي ...
إن الجراحَ تسيلُ من قدَمَيه، تنبتُ وردةً في إثْرِ وردةْ
فلترفعيه إلى جذور النخلِ حيث ينامُ وحدَهْ
ولتضفري من سعْفِ نخلتِه مخدّةْ
حتى إذا ما أثغمِضَتْ عيناه وانسرحتْ يداهُ
وتهدّلَ الأبنوسُ فوقَ جبينِه ... كوني رؤاهُ
*أيّوبُ في المستشفياتِ يهيمُ، تسبقُهُ عصاهُ
بين القرى المتهيّباتِ خُطاه، والمدنِ الغريبة
وهو المسيحُ يجرُّ في المنفى صليبَهْ
أنهارُ جيكورَ التي اندثرتْ تُفَجِّرُها عصاهُ
وبيوتُها تنشَقُّ عن لبَنٍ إذا مرّتْ يداهُ
عبْرَ الجبينِ
وأورقتْ في السرِّ أغنيةٌ وآهُ
وإثر رحيله، نشرت أعماله الكاملة عن دار العودة ببيروت سنة 1971، وجمعت دواوينه: أزهار ذابلة (1947)، وأساطير (1950)، والأسلحة والأطفال (1955)، وحفّار القبور، وأنشودة المطر (1960)، والمعبد الغريق (1962)، ومنزل الأقنان (1963)، وشناشيل ابنة الجلبي (1964)، وإقبال (1965).
وحالت الأحداث السياسية والصحية التي يعيشها العالم دون إحياء ذكرى تليق بمقام «شاعر النبوءات»، إلا أن قصيدته «أنشودة المطر» التي غناها محمد عبده عادت إلى الواجهة، شأن قصيدة «غريب على الخليج» التي ردد آلاف من عشاق شعره (أصيح بالخليج يا خليج يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى) تزامناً مع ذكرى الرحيل، وانتصاراً (لأبوغيلان) بأثر رجعي إثر مجابهة النقاد تجاربه التحديثية، ورفض التقليديين مغامرته وتحفظهم على تغيير البنية الإيقاعية الراسخة.
فيما يراه الشاعر دخيل الخليفة نموذجاً فريداً في التجديد المنطلق عن وعي ودراية وخبرة طويلة بالشعر الإنساني وتجاربه عبر قرون، وقال (لولا هذا العراقي (الخصيبي) النحيل.. لتجمد نهر القصيدة العربية وأصبح مجرد ممشى بارد بلا روح.
ولد «السياب» في قرية جيكور بمحافظة البصرة جنوب العراق، في 25 ديسمبر 1926، وخلدها في شعره، وتحولت بفضله من قرية صغيرة تابعة لقضاء أبي الخصيب إلى قبلة يقصدها عشاقه، وعانى من يُتم مبكر بعد موت والدته وهو في سن السادسة وظلت نصوصه الأولى أسيرة تصوراته الرومانسية، والشعور بالاغتراب في العالم الذي اعتبره عالماً موحشاً، وأنهى دراسته الثانوية وانتقل إلى بغداد، والتحق بدار المعلمين العالية، وتخصص في اللغة العربيّة، وقضى سنتين في تعلم الأدب العربي، ما ساعده على تعميق معرفته بالتراث العربي، أتبعها بدراسة اللغة الإنجليزية، طمعاً في التعرف على ثقافات أخرى، ومواكبة حركة الأدب العالمي، وأسهم بترجمات لشعر الإسباني فدريكو جارسيا لوركا، والأمريكي إزرا باوند، والهندي طاغور، والإيطالي أرتورو جيوفاني.
اتسمت شعرية السياب بالالتزام وظل شاعراً وفياً للقضايا الوطنية، بحكم واقع الاحتلال في العراق، وناضل في سبيل تحرير بلاده، وبسبب نشاطه النضالي فُصل من وظيفته كمعلم في الرمادي وأودع السجن، وتنامت شعريته بتوسع دائرة الاهتمام بقضايا نضالية أوسع في ظل استشعاره فداحة التناقضات الاجتماعية، ثم انتهى شاعراً عروبياً ملتزماً بقضايا القومية. وعزا الناقد الفلسطيني الراحل إحسان عباس، انتماء «السياب» إلى اليسار، إلى رغبة التعبير عن تعويض ما عاشه من فقد وحرمان، فأراد الانتقام لحرمانه من الناس والزمان، فاستهوته الاشتراكية لا عن عقيدة فلسفية بل عن نقمة اجتماعية، وتعرض صاحب (شناشيل ابنة الجلبي) لخيبات عاطفية وثقافية متوالية أسهمت في تبنيه مواقف حادة تجاه المرأة وعلت نبرة التشاؤم في شعره.
ورثاه رفيق دربه الشاعر سعدي يوسف بقصيدة (انطفاء فانوس جيكور) منها:
جيكورُ توقد في المساء الرطبِ فانوساً ولا تلقى ضياءَهْ
– مات اليتيمُ وخلّفَ امرأةً وأيتاماً وراءَهْ
يا رحمة الله التي وسِعَتْ شقاءَهْ
يا أُمَّ مَن لا أُمَّ تُغْمِضُ جفنَهُ: كوني رداءَهْ
ولْتمنحي الجسدَ المعذّبَ راحةً، والحلقَ قطرةْ
ولْتمسحي بالسِّدْرِ جبهتَهُ، وبالأعشابِ صدرَهْ
هو طفلُكِ المصلوبُ فوقَ سريرِهِ عاماً فعاما
متقيِّحَ الطعناتِ
مشلولاً
مُضاما ...
يا رحمةَ الله التي وسِعَتْ شقاءهْ
قودي خُطاه إلى السماءِ، فطالَ ما حجبوا سماءَهْ
وتَرَفّقي ...
إن الجراحَ تسيلُ من قدَمَيه، تنبتُ وردةً في إثْرِ وردةْ
فلترفعيه إلى جذور النخلِ حيث ينامُ وحدَهْ
ولتضفري من سعْفِ نخلتِه مخدّةْ
حتى إذا ما أثغمِضَتْ عيناه وانسرحتْ يداهُ
وتهدّلَ الأبنوسُ فوقَ جبينِه ... كوني رؤاهُ
*أيّوبُ في المستشفياتِ يهيمُ، تسبقُهُ عصاهُ
بين القرى المتهيّباتِ خُطاه، والمدنِ الغريبة
وهو المسيحُ يجرُّ في المنفى صليبَهْ
أنهارُ جيكورَ التي اندثرتْ تُفَجِّرُها عصاهُ
وبيوتُها تنشَقُّ عن لبَنٍ إذا مرّتْ يداهُ
عبْرَ الجبينِ
وأورقتْ في السرِّ أغنيةٌ وآهُ
وإثر رحيله، نشرت أعماله الكاملة عن دار العودة ببيروت سنة 1971، وجمعت دواوينه: أزهار ذابلة (1947)، وأساطير (1950)، والأسلحة والأطفال (1955)، وحفّار القبور، وأنشودة المطر (1960)، والمعبد الغريق (1962)، ومنزل الأقنان (1963)، وشناشيل ابنة الجلبي (1964)، وإقبال (1965).